يصنف علماء الاجتماع وسائل الإعلام في خانة تصنيف أطر التنشئة الثانوية خلافا لمؤسستي الأسرة والمدرسة اللتين تنتميان إلى أطر التنشئة الاجتماعية الأوليّة والأساسيّة. وبذلك تكون وسائل الإعلام محدّدا مهما من محدّدات تنشئة الأفراد اجتماعيا حتى وإن كانت هذه الأهمية ثانوية وتشترك في الدور والوظيفة مع أطر اجتماعية أخرى مثل أصدقاء الجيل ودور العبادة وغيرهما.
ونفترض أن قوة البعد الاجتماعي للعملية الاتصالية والإعلامية والوظائف الاجتماعية المهمة، التي تقوم بها وسائل الإعلام على غرار التنشئة الاجتماعية (la socialisation) والاندماج الاجتماعي (lصintégration sociale) ، هي التي أعطت المشروعيّة العلميّة السوسيولوجيّة لقيام فرع داخل علم الاجتماع العام يسمى: علم اجتماع الإعلام.
ولكننا إذا أضفنا إلى هذا الاعتبار، تلك الحيرة المعرفية التي انطلقت مع بداية القرن العشرين والتي شهدت تساؤلات جديّة حول الماهية الجديدة للمجتمعات وأثر وسائل الإعلام الجماهيرية في التغييرات التي عرفتها ماهية المجتمع الحديث وما مصداقية ما يسمى المجتمع الجماهيري ثم وصف مجتمع المعلومات، إذا ما أضفنا عامل هيمنة وسائل الإعلام اليوم على الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات، إلى أي حدّ يمكن القبول بالتصنيف السوسيولوجي لوسائل الإعلام الجماهيرية كمؤسسات للتنشئة الاجتماعية الثانوية؟
لقد خيّرنا استهلال هذه المقالة الأوليّة والاختزالية بطرح تساؤل نعتقد في مشروعية التفكير فيه بالرغم من أنه لن يستأثر إلا بعنصر من عناصر تحليلنا، على اعتبار أن مشروعيته كتساؤل يستند إلى مؤشرات تدعمه كمها
(1)، ستجد صداها عند مقاربة مكانة وسائل الإعلام من منظور التحليل البنائي الوظيفي وأيضا النظريات النقديّة التي تهتم بالتأثيرات الاجتماعية لوسائل الإعلام وكيف أنها تخدم العلاقات الاجتماعية القائمة أكثر على التنافس والصراع والهيمنة وذلك مقارنة بخصائص البناء الاجتماعي المنظور إليه بنيويا ووظيفيا من زاوية التعاون والانسجام. كما أن اختيارنا لهذين الباراديغمين
(2) أساسا لا يعني إغفالنا مثلا لباراديغمي الفردانية المنهجية والتفاعلية الرمزية حيث يمكن الاعتماد عليهما في نقد النظرتين. مع العلم أن التركيز على النظرية البنائية الوظيفية
(3) والمدرسة النقدية يعود إلى أن كلتا النظريتين قد اهتمتا تاريخيا بمسألة وسائل الإعلام الجماهيرية كنظم اجتماعية إضافة إلى أن معظم الأبحاث ونماذج الاتصال العلمية المتعلقة بوسائل الاتصال والإعلام، هي ذات خلفية وظيفية أو نقدية أو الاثنين معا. لذلك، فإن هذه المقالة ستستعين في تحديد كيفية تصور النظرية البنائية الوظيفية والنظريّات النقدية ليس فقط بالأسس الفكرية العلمية للنظريتين، بل وأيضا ببعض نظريات الاتصال التي رأينا مشروعية توظيفها في تحليلنا وذلك مثل نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام ونظرية الاستخدام والإشباع ونظرية ترتيب الأوليات ونظرية الغرس الثقافي وبعض نظريات التأثير.
فكيف يمكن أن نفهم ونفسر وظيفة أو وظائف وسائل الإعلام وتأثيراتها المختلفة في المعيش اليومي للأفراد والمجتمعات عموما (مع بعض الإحالات القليلة على المجتمعات العربية)، من خلال محاولة تطبيق الأسس الجوهرية لنظريتي البنائية الوظيفية والنقدية، وهل من الممكن أن نخلص بعد ذلك إلى التلويح بأهمية فكرة مراجعة التطبيق السوسيولوجي لوسائل الإعلام واعتبارها من مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأوليّة؟ يُعرف دينيس ماكويل (D. Mcquail) وسائل الإعلام بأنها مؤسسات تهتم بإنتاج المعلومات والأفكار والثقافة وتوزيعها على الناس تلبية لحاجياتهم الاجتماعية
(4) وهي أيضا «الأجهزة الأساسية للعلاقات الاجتماعية»(5). كما أنها- أي وسائل الإعلام- «الأداة الرئيسية لعملية الإعلام بكل خطواتها بدءا من اختيار الفكرة وصياغتها في رسالة ذات محتوى وشكل معين إلى أن نصل إلى جمهور المتلقين لتحقيق وظائف أو غايات معينة ذات علاقة بالفرد والمجتمع»(6). واستنادا إلى هذه التعريفات المتقاربة، يبدو البعد السوسيولوجي لوسائل الإعلام حاضرا بقوة. فهي نظم اجتماعية تحتكم إلى ما تحتكم إليه أجزاء النظام الكلي من وظائف وعلاقات متبادلة، ناهيك عن دورها في تحقيق ما يسميه اميل دوركايم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق