عند مطالعتك الصحف العربية تنتابك الدهشة والمرارة في ان واحد ، فاذا تجاوزنا غالبية المقالات التي توصف في خانة "فشة خلق" وركزنا على المقالات التي توصف ب "الرصينة" ويوصف كتابها بالمحللين والكبار واحيانا بالخبراء وتسلط عليهم الاضواء ويكونوا نجوما في الفعاليات ومقربون من السادة كبار القوم والمسؤولين الحكوميين، فسوف تندهش عندما تجد ان جوهر ما يكتبه هؤلاء في مقالاتهم اليومية او الاسبوعية كأنه موجه بدقة من جهات اعلامية تتقن فن التوجيه والقيادة عن بعد ، فترسم لكتابنا الكبار افكارهم بل تحدد لهم مضمون مقالاتهم وتقرر ما هي القضايا التي عليهم الاهتمام بها والكتابة فيها . ومع انها تترك لهم حرية الخيار في الاستنتاج الا ان استنتاجهم نادرا ما يخرج عن نطاق ما هو مرسوم
هذا الحال هو النتيجة المنطقية لما نسميه في الاعلام "اشعل نارا مع نزول الثلج فسياتي الجميع ليتدفأ" ومعنى هذه العبارة هو ان من يشعل النار هو الذي يحرك الاخرين ليأتوا اليها ليس فقط هربا من البرد بل ان المعنى الاعمق هو انه ليس هناك من يستطيع اشعال نار اخرى ومن يستطيع فلن يأت الى نارك.
وهكذا هي الحال في بلاد العرب من يشعل النار هم غير العرب أي من يصنع الاحداث (نار الكاتب والمحلل والخبير ليس العرب) ولا تنطلق من الاوضاع المحلية ، وان كل الدور الذي يمكن ان يقوم به العرب هو ردة فعل ليس الا
لذا فان الكاتب والمحلل والخبير في الاعلام العربي لا يقوم بأحسن حالاته الا بشرح تفاصيل (النار) .. الحدث .. فالمحلل الخبير لا علاقة له بالتحليل بل كل ما يقوم به هو الوصف وبناء على الوصف الذي يغلب عليه الطابع الانطباعي العاطفي والذي لا يمكن الا ان يكون منحازا (وفق انتماء الكاتب فكريا وسياسيا وايديولوجيا) لذا فان معظم ما ينتجه هؤلاء المحللين وهو ما نشاهده في الصحف والمقابلات التلفزيونية لا يمكن ان يكون ارضية او قاعدة لبناء موقف او اتخاذ قرار سياسي بناء عليها فهي ليست سوى مجرد تعبير عن رأي او مجرد اعلان موقف رافض او موافق منسجم او مخالف للحدث الذي صنعه الخارج .
ولذا نجد هؤلاء غير مؤثرين في الجمهور بسبب ضعف القدرة على التحليل والذي غالبا ما يكون سببه الرئيسي هو الضعف الفكري وندرة الاطلاع ومحدودية القراءة وحزئية المعرفة عند الاغلبية من "اعضاء نادي المثقفين" نجدهم ، والاخطر انهم يرددوا ما يريده العدو وينغمسوا في الاوهام التي يشيعها واليكم مثلا قد يقرب الصورة قال ايهود اولمرت خلال حملة الانتخابات لاختيار رئيس للوزراء التي جرت عام 2006 ، انه إذا تولى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات ، فان إسرائيل "ستعمل على أن تسمح لها حدودها الدائمة بالانفصال عن أغلبية الشعب الفلسطيني والاحتفاظ بأغلبية يهودية مهمة ومستقرة". وأكد اولمرت حينها في حديث لصحيفة "جيروزاليم بوست" أن إسرائيل ستحدد حدودها النهائية من الآن وحتى 2010م. ومع ان معظم ما يقال في الحملات الانتخابية لا يتحقق في الواقع الا ان من يطالع الصحف العربية لعدة اشهر لاحقة بعد هذا التصريح يدرك بوضوح مدى ضعف (المحللين والخبراء والكتاب والمثقفين والسياسيين العرب) والفلسطينيين في المقدمة. فتصريح أي من زعماء دولة العدو او مسؤول غربي او امريكي كفيل باشغال (المحللين العرب) اشهرا بل سنوات مع ان معظم التصريحات لا تتحقق ..
لانه باختصار ما يتم الاقرار بالقيام به وما يوضع من خطط وبرامج لتحقيق الاهداف لا يتم الاعلان عنه . وبدلا من انشغال المحللين بكشف خطط العدو والتحذير منها واقتراح بدائل واستعدادات لمواجهتها نجدهم يكتفون بوصف المعلن وتحديد موقف مع او ضد او على الحياد (والحياد هو موقف ايضا) . لهذا لا يمكن الاستفادة من معظم ما ينتجه الكتاب والمحللين العرب الا من زاوية واحدة فقط وهي معرفة (من مع ومن ضد). وهذا اضعف الايمان . الحل : بتجديد الدماء واهالة التراب على ثقافة ردة الفعل والتزام المثقف بدوره التحريضي التنويري للجماهير وليس للتباهي وارضاء اصدقائه ومحبيه والتنافس في دائرة الوجاهة والنرجسية وحب الظهور .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق